العداوة.. ضرورة لم نمارسها بالقدر الكافى !
” الساخر كوم ”
العداء سنة بشرية تسرى فى نفوسنا .. كمتلازمة للصراع المضروب على جنس الإنسان ، والذى هو أصل الإبتلاء فى حياتنا الدنيا وأساس الثواب والعقاب فى الآخرة ، وكما أن الحب إحساس بشرى خارج عن حدود السيطرة العقلية أو المنطقية ، فكذلك البغض والكراهية.. ليس بإمكان المرء أن يفرض على نفسه أياً منهما بمحض إرادته ، بل هو مستسلم مسير لما يفرضه عليه هذا الإحساس من تبعات ومسئوليات مباشرة.. فهى علاقة بين طرفين.. لابد فيها من توازن بينهما.. إما فى قدر العداء ، أو فى حجم الرغبة (الجادة) للتنازل عن مقدمات العداوة وتفعيلاتها واقعياً .. وكذا الرؤية لشكل الترابط بين الطرفين فى المستقبل.. والأهم من ذلك كله.. العنوان الذى يمكن للطرفين التحرك تحت إطاره !
العداوة.. سواء بإعلانها أو كتمانها ، تأتى فى مرحلة لاحقة بعد إستقرار إحساس البغض والكراهية فى نفوس الناس.. وقد لا يرقى إحساس الإنسان بالبغض إلى مرتبة العداء الجزئى أو الشامل ، بل قد يظل محصوراً فى دائرة عدم الإستلطاف أو النفور الذى لا يرتبط بإعلان العداء ، والإنتقال إلى مرحلة العداوة العملية ، سواء كان ذلك داخلياً أو خارجياً علنياً. فدعونا نرتب التسلسل المنطقى لهذا الشعور.. فهو إحساس بالكراهية والبغضاء يتملك من نفس الإنسان.. إما لقرائن تعضده أو لإحساس غامض لا دليل عليه ، وهذه المرتبة تحتل العقل الباطن دون الحاجة لتفعيلها على أى ملكة من ملكات الإنسان ، فإذا كان العلم يقينياً.. أو كانت نوعية العداء من النوع الذى يهدد إستقرار الإنسان ، فقد تنتقل إلى مرحلة أخرى وهى إعلان العداء.. والذى قد يظل حبيس الصدور أو يطلقه صاحبه على صفحات الحياة بشكل طبيعى ، وقد يشعر الإنسان بعداوته لمصدر ما.. لكن لا يتخذ الخطوات اللازمة لتمييز هذا المصدر بالذات على انه مصدر عدائى بالشكل الكافى ، وهذا خلل فى تفعيل العداوة بقدرها المناسب.
والعداء بحاجة لعزم وإصرار.. ونية موجهة للإضرار بمصالح العدو.. لذلك فصل الله بين معرفة الشر الذى يستوجب البغض والكراهية ، وبين إتخاذ الخطوات الازمة لإعلان هذا البغض فى شكل عداوة.. ليصبح المصدر محل العداوة فى مرتبة المنابذة والخصومة. فيقول الله عز وجل “إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً”.. أى هو مستوجب للعداء.. وما علينا إلا أن نضعه فى الإطار المناسب.. وهو إعلان العداوة.. ليصير مميزاً عن باقى العلاقات بأنه “عدو” !
ولكن.. هل هذا التسلسل النفسى المفهوم.. والذى يترتب عليه فى النهاية تصنيف لازم مبنى على قبول أو رفض الآخرين .. يعد من المثالب التى قد يتصف بها الإنسان ، وأصبح بدوره بحاجة للتخلص منها والعمل على إقتلاع هذا الإحساس الطبيعى.. أوتعطيل آلية تكوينه فى النفس البشرية ؟! أم أن المطلوب هو تحكم فى مصدر إستثارته وتولده.. أو تحييد المسارات التى يتم توجيهه فيها إلى هذا العدو بشكل مباشر أو غير مباشر.. أم أن الأمر يتعلق بالسقف المسموح به شرعاً وعرفاً للتعامل مع مبدأ العداوة مع الآخرين ؟!
ثم.. هل الإنسان بحاجة للتخلص من عداوته لكل الناس.. بمعنى أن عليه أن يحب كل “الآخرين” ويرفض عداوتهم.. حتى وإن لم يكن هو المتسبب فى حدوثها ؟!.. أم هو بحاجة لأن يعلن هذا العداء ويستخرجه بالشكل الكافى من مصادر كتمانه فى النفس ، المناسب لحجم العداء المطروح ، ليحل على سطح التعاملات الإنسانية المباشرة.. ويعلن وجوده بشكل فعال ؟! لا شك أن العلم الحقيقى لا الظنى يدخل بشكل أساسى فى تكوين هذا الإحساس وتوجيهه إلى المكان المطلوب بالقدر الصحيح ، فلابد من تحديد أسباب العداء.. ومصدره.. وكيفية إعلانه وإظهاره قبل أن يتشكل ويصب فى قالب العداوة العملية لا النظرية. والذى أراه أن العداوة على إطلاقها أمر طبيعى وغير متكلف.. وليس من قذارات النفس التى يجب على الإنسان أن يبحث لها عن وسيلة لنفيها أو إلغائها ، بل هى أمر يحتاج للوجود كممارسة إنسانية طبيعية على مر الأزمان ، غير أن العوامل التى تحيط بها هى التى تشكل صورتها النهائية ، وهى تشكل الجزء الذى يحتاج للتقعيد والإنضباط ، كى لا تخرج عن مسارها إلى حيث لا ينبغى لها أن تتواجد.
هناك عوامل كثيرة تحدد شكل العداوة النظرية.. ومن ثمَّ الواقع التطبيقى لها فى ميدان المعاملات الإنسانية ، أولها العلم اليقينى.. وهذا أمر بالغ الخطورة.. ومصدر هام من مصادر الخلل فى إعلان العداء على الآخرين.. فالعلم اليقينى يفيد قابلية الإستحقاق لهذه العداوة.. وتعطى المبررات الواقعية لحجم العداء المطلوب.. وتفيدنا فى المسارات التى يجب علينا بثها فيه بالقدر الكافى ، وبدون العلم والمعرفة لأصل العلاقات مع الآخرين سيصاب الإنسان إما بتعطيل العداء الواجب حدوثه لحماية بقائه ، أو الإفراط فى حجم وشكل العداوة الناتجة.. أو -وهذه الأسوأ- إسقاط العداوة على من لا يستحق !
ومن العوامل المؤثرة أيضاً فى تشكيل العداء الإنسانى.. قدر المصلحة التى تحصل من هذا العداء ومدى حاجة الإنسان لها .. ومدى قدرته على تحمل أعبائها وتبعاتها بالشكل الذى لا يعود عليه بالضرر.. فالموازنة أمر لا يمكننا -على الأقل عملياً- إنكاره ، بل أحياناً يكون مطلوباً من الإنسان أن يعلن عداوته على ما لا يطيق.. وقد تكون التبعات من جملة المشاق التى عليه أن يتحملها.. لكن لا إعتبار هاهنا لهذا الشق.. طالما أن إعلان العداوة فى حد ذاته هو المطلوب تحقيقه.. أما الثمار فقد لا يجنيها بنفسه.. وإنما قد يجنيها غيره ممن شملتهم المصلحة فى العداء ، لتصبح خطوة إعلان العدواة فى حد ذاتها ثمرة أولى .. تتبعها أمور أخرى !
لماذا ننفى عن أنفسنا قابلية العداء لآخرين لا يجدون فى إشهار نفس السلاح فى وجوهنا أدنى غضاضة أو تكدير لصفو التراث الإنسانى ؟.. الذى يحدث بكل موضوعية أن أساليب إعلان العداء على الآخرين قد أخذت أشكالاً جديدة.. خادعة وماكرة ، إلى الحد الذى صارت ترتدى فيه ثياب الصداقة والإحسان.. وما ذلك إلا لأن القوم قد تفننوا فى عقد ألوية العداء بشكل منهجى منتظم طيلة عقود من الزمان ، وقد راعوا بشكل فعال تغير الأزمان والشخوص فى الصورة التى ينبغى أن يكون عليها هذا العداء.. وطالما أن العبرة بالمقصد لا بالوسيلة.. فلا يمكننا أن نعتبر من يريد الإضرار بمصالحنا بأسلوب “حضارى” ، ولو فى إطار القانون ، أنه خارج دائرة العداء.. لأن المقصد فى هذا المشهد واضح مفهوم.. ومن الخطأ أن تتعلق أفهامنا بالجلود الناعمة التى تغطى قلوباً حاقدة سوداء ، دون أدنى محاولة منا لفهم الحقائق على الصورة التى تكونت وبالترتيب الطبيعى الذى تشكلت عليه. فالوسائل التقليدية فى إعلان العداء لم يعد لها أثر.. وأسلوب المواجهة والنبذ إلى الأعداء على سواء لم يعد متواجداً فضلاً عن إمكانية تطبيقه أو تصور ذلك.. خاصة إذا كان المجتمع يعانى من تفاوت كبير فى الإهتمامات ووسائل الإستقبال.. فما يفهمه الخاصة لا تعرفه العامة.. وما ينفطر له قلب المدحورين لا تلين له جلود المترفين !
ومن الأساليب الجديدة لإعلان العداوة على الآخرين.. والتى قد تسببت فى خداعنا لعقود طويلة دون تذمر من هذا السبات العميق :
– طلى العداوة بشحم شاةٍ ذُبحت كرماً للضيافة.. نحن لا نفهم لأننا لا نريد ذلك.. وليس من العسير أن نستقرأ المعانى التى تعج فى زخم بين السطور أ إلا أن هذه النظرة القاصرة صارت ديدناً ومنهجاً أقرب إلى التلازم الفكرى فى كل سكناتنا وحركاتنا. فلأننا نشعر بالضعف.. ولسنا ضعفاء فى الحقيقة ، فإننا نكتفى بالجزء السعيد فى كل فيلم.. والمشهد الكوميدى فى كل علاقة.. ولا دخل لنا من قريب أو بعيد بمبدأ الأحداث ومنتهاها.. لذلك أصبحت هوايتنا المفضلة ، والتى نمارسها بلا كلل وصل لدرجة الإحتراف ، هى إستخراج المقبول من بين المرذول.. فنبحث فى ثنايا الأحداث عن الشئ الذى تقر به أعيننا بتأويل فاسد فى كثير من الأحايين.. دون إعتبار لحقيقة الأمور.
– التعلق بالوسائل دون النظر فى المقاصد.. حين لا تنظر أفهامنا إلى ما هو أبعد من ظلِّ الصداقة المفتعلة ، والمصالح المقلوبة ، والعلاقات المتوترة.. فإننا فى واقع الأمر لا ننظر إلى شئ.. بل نعيش الحدث لحظة بلحظة.. فى إنتظار الافعال تأتى لنبحث لها عن رد مناسب أو غير مناسب.. حتى تتآكل هذه العلاقة بين الفعل ورد الفعل بمرور الزمن.. ليبقى فى الأذهان صورة شكلية سطحية للعلاقات ووسائلها المزركشة.. دون الخوض فى تفاصيل المقاصد.
– تفريق الأعداء وتشتيتهم.. هو نفس المفهوم الذى يعتمد على إخفاء مصدر الخطر الحقيقى ، ليظل غامضاً غير محدد أو معين ، فتتفرق الجهود حول عدد لا بأس به من المصادر الزائفة .. وربما تركز الأفكار والعقول على مصادر تحمل الغثَّ والواهِ من هذه الأخطار.. ويبقى المصدر الحقيقى بعيداً عن ملعب الأحداث.. وما على الذى يبحث عن إعلان العداوة وتفعيلها إلا أن يبقى فى حالة ترقب مستمر.. حتى تخار قواه وتنهكه الأوهام
– تمييع البؤرة المراد تحديدها لدائرة العداء.. وهذا هو الذى نراه كثيراً فى هذه الأيام.. فحين تتفرق الكلمة وتتعدد وسائل إستقبال الأحداث .. وحدود إستشعار الأخطار.. وآلية تحديد المصلحة ، سينتج عن ذلك صورة مشوشة مشوهة لمصدر العداء.. حتى وإن إتفقوا جميعاً فيما بينهم على وحدة العدو ومكمن خطورته ، إلا أن التدرج المخيف فى إستقبال هذه الإشارات سيحبط -بكل تأكيد- أى محاولة ناجحة لإعلان العداوة على من يستحق ذلك من الأعداء.
(ربما) يتبع..
مفروس
Archived By: Crazy SEO .
Comments
Post a Comment